
المعتقلون اللبنانيون في سوريا: عود على بدء بين التوظيف السياسي والحيز الإنساني
المصدر: القدس العربي
خَبَتْ قضية المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية منذ اندلاع الحرب السورية عام 2011 لكن تسلّم تل أبيب من روسيا، وبالتعاون مع نظام الأسد، رفات جندي إسرائيلي بعد 37 سنة على فقدانه أثناء اجتياح قواتها للبنان في العام 1982 أعاد تحريك هذه القضية ببُعدها الإنساني، وإن كانت الحسابات السياسية حاضرة.
جاء حدث تسليم رفات الجندي زخاريا باومل، الذي قُتل في معركة السلطان يعقوب بين القوات الإسرائيلية والقوات السورية في البقاع الغربي، مفاجئاً سياسياً سواء لمؤيدي دمشق أو للمناوئين لها، وصادماً للبيئة الشعبية المؤيدة لمحور “حزب الله-سوريا-إيران” وإن خَفَتت أصواتهم، ومخيباً للمعتقلين المحررين من السجون الإسرائيلية، لعدم مقايضة هذه الورقة في عمليات التبادل السابقة، لما كانت تُشكّله كورقة تفاوضية ثمينة. وكان أيضاً محَفّزاً للأمل الممزوج بالألم لأهالي المعتقلين، الذين يريدون أن يعلموا مصير أبنائهم، سواء أكانوا أحياءً أم أمواتاً، ومهما كانت الوقائع قاسية.
يقظة “هدية الرفات”
التقط رئيس حركة التغيير إيلي محفوض، أحد المناهضين الشرسين للنظام السوري، منذ زمن الوصاية على لبنان، “الهدية” الروسية-السورية المقدّمة لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو عشية الانتخابات التي فاز بها، والتي لاقت “الهدية الأمريكية” باعتراف دونالد ترامب بالسيادة الإسرائيلية على الجولان. فوَظّفَ “حدث تسليم الرفات” لإعادة تسليط الضوء على القضية. هو يستخدم تعبير “نفض الغبار عن الملف والدفع به مجدداً إلى الواجهة” من خلال إعادة طرحه داخلياً على المستوى الرسمي والسياسي والأهلي، وخارجياً عبر إيصاله إلى المحافل الدولية.
الخطوة الأولى في مسار الولوج إلى المنظمة الدولية كانت في الكتاب الذي وجّهه إلى اللجنة الدولية للصليب الأحمر بشخص رئيسها، وضمّنه ملفاً حول قضية المعتقلين في السجون السورية، وأرفقه بلوائح إسمية وتفاصيل عن ظروف الاعتقال والاحتجاز القسري طالت 622 لبنانياً قال إن بعض الجمعيات والمنظمات المعنية بقضية المفقودين والمخفيين قسراً والمخطوفين في سوريا أحصتهم بشكل شبه دقيق، وهم يتوزعون على عدد من السجون والمعتقلات ومنها على سبيل المثال لا الحصر: صيدنايا، وتدمر، والمزة، ودمشق، وحلب، وعدرا، وحماة، والسويداء، وحمص، وفرع فلسطين أو فرع 235.
في كتابه، طالب اللجنة الدولية للصليب الأحمر بإرسال لجنة تحقيق وتقصٍ إلى الأراضي السورية. طرق بابها انطلاقاً من قناعته أنها كعضو مراقب في الأمم المتحدة لديها حظوظ أكبر في التأثير على الدول الأعضاء في هذه المنظمة الدولية ونيل دعم العديد منها. وحسب بروتوكولات جنيف يحق لها الدخول إلى أي سجن في العالم من دون معارضة السلطات، ولها الحق بالبحث، لا بل من واجباتها وضع تقرير يكشف عن موضوع المحتجزين.
لكن الناشط السياسي الذي كان في يوم من الأيام مؤمناً بخط “الجنرال” – يقصد العماد ميشال عون رئيس الجمهورية الحالي – قبل أن ينقلب الأخير على ثوابته السياسية بتحالفه مع “حزب الله” يعلم علم اليقين أن حركته هذه هي بمثابة ضغط معنوي، إذ من الصعب أن ُيثمر هذا الباب حلولاً فعلية، خصوصاً أن سوريا ليست من الدول المعروف عنها التزامها بالمواثيق الدولية.
التشابك بين المعتقلين والمفقودين
في المبدأ، هناك فصل بين ملفيّ المعتقلين في السجون السورية والمفقودين في لبنان، لكنهما، في حقيقة الأمر، متشابكان ومتداخلان بقوة. صحيح أن قانون الأشخاص المفقودين والمخفيين قسراً الذي أقرّه مجلس النواب في 13 تشرين الثاني/نوفمبر 2018 يشير إلى المفقودين خلال الحرب الأهلية اللبنانية، والذي لا بد من أن يطال المعتقلين في السجون السورية، غير أن من شأن حل قضية المفقودين أن يساهم في جلاء الكثير من مواطن الغموض في قضية المعتقلين.
كان ملف المخطوفين والمفقودين اللبنانيين الذي أفرزته الحرب اللبنانية تتم مقاربته على مستوى التجمعات الأهلية على مسارين: الأول، هو مسار لجنة أهالي المخطوفين والمفقودين في لبنان التي ترأسها وداد حلواني، وقد أضحت قضية المخطوفين عنواناً ملازماً لها منذ أن خُطف زوجها في 24 أيلول/سبتمبر 1982 من منزله في رأس النبع (بيروت) على أيدي مسلحين عرّفوا عن أنفسهم أنهم من جهاز تابع للدولة. أما المسار الثاني، فهو مسار “جمعية دعم المعتقلين والمنفيين اللبنانيين” (سوليد) التي ترأسها غازي عاد، والتي ركّزت عملها بشكل أكبر على المفقودين والمعتقلين في السجون السورية، وحظيت بدعم سياسي من تيار عون الذي كان منفياً إلى فرنسا، ومن المنظمات الإنسانية الدولية. تكاتف هذان المساران لاحقاً ولا سيما بعد العام 2000.
تقول الصحافية مي أبي عقل، التي خصصت منذ منتصف ثمانينيات القرن الماضي حيزاً من عملها المهني لمتابعة ملف المفقودين كقضية إنسانية، إن الرقم 600 المتداول عن معتقلين في السجون السورية والذي عملت عليه جمعية “سوليد” برئاسة غازي عاد قبل أن يتوفى، يتضمن الأسماء التي ترتبط بأهالي المفقودين الذين أفادوا من كل مناسبة لإبقاء قضيتهم حيّة. وكانوا على الدوام حاضرين في “خيمة الأهالي” التي نُصبت في حديقة جبران خليل جبران مقابل مبنى الإسكوا في وسط بيروت. لكن لا نعلم، تحديداً، ما إذا كان هؤلاء المفقودون في لبنان أم في سوريا؟
وتروي، في دلالة على التداخل بين الملفين، أن لائحة الـ600 تضم العديد من أسماء الضباط والجنود وأنصار الجيش الذين سقطوا في 13 تشرين الثاني/نوفمبر 1990 (عملية الإطاحة بالجنرال ميشال عون يوم كان رئيساً للحكومة العسكرية) وكان أهالي هؤلاء يشاركون في كل تحرّك على أساس أن أبناءهم معتقلون في سوريا، ليتبين بعد 15 سنة أن رفات 22 عسكرياً مدفونة في مقبرة جماعية في باحة وزارة الدفاع في اليرزة، ولم تكن قيادة الجيش على علم بالأمر. بمعنى أن هؤلاء كانوا مدفونين في لبنان، بينما أهاليهم كانوا مقتنعين بأنهم في سوريا، وكان يأتي أشخاص سوريون ويستغلون هؤلاء الأهالي ويتلاعبون بمشاعرهم من خلال إيهامهم بأن أبناءهم موجودون بهدف الابتزاز المالي.
المسار الصحيح قيد الاختبار
في الواقع، حاولت أكثر من حكومة على مرّ السنوات الماضية العمل على إقفال ملف المفقودين اللبنانيين. كانت المقاربة في جانب منها لغايات قانونية، وليس تماهياً مع حق الأهالي بمعرفة مصير أحبائهم وحاجتهم إلى ذلك ليعيشوا بسلام، إلى أن جاء إقرار قانون الأشخاص المفقودين والمخفيين قسراً بإجماع القوى السياسية في لبنان، ليفتح الأفق أمام حل علمي وقانوني وإنساني لهذه القضية التي تضم بين دفتيها رقم 17 ألف مفقود، وإن كان الاعتقاد بأنه أكبر، طالما أنه يتعلق بكل عمليات الخطف والقتل والتصفيات التي حصلت طوال الحرب العبثية.
لا شك أن القانون أبصر النور في لحظة تقاطع مصالح سياسية مع ضغط “لجنة أهالي المفقودين” لأكثر من 3 عقود. وأهميته تنبع من مادته العاشرة التي نصت على تشكيل “هيئة وطنية مستقلة” تكون من مهامها وضع الآليات للكشف عن مصير المفقودين أحياء كانوا أم أموات. لكن العبرة في التنفيذ. ففي الرابع والعشرين من نيسان/إبريل، أي بعد خمسة أشهر على إقرار القانون، كان لقاء دعت إليه اللجنة تحت عنوان “لقاء الانتظار” للإشارة إلى انتظار صدور تعيينات “الهيئة الوطنية” لبدء العد العكسي لحال الانتظار الذي طال وقد لا ينتهي.
جل ما يطلبه الأهالي من “الهيئة” هو أن تعطيهم الدليل الحسيّ حول مصير أبنائهم، وأملهم أن تكون الخطوة الأولى على طريق الألف ميل لحق المعرفة مهما كانت قاسية.
تذهب أبي عقل إلى اعتبار أن “الهيئة الوطنية المستقلة” هي الأمل الأخير للأهالي لطيّ هذا الفصل من حياة اللبنانيين. المهم أن تتوفّر الإرادة السياسية، فكل الذين كانوا مسؤولين في زمن الحرب هم اليوم مسؤولون في زمن السلم، وبعضهم يتلو فعل الندامة. ما هو مطلوب أن يُقدّم هؤلاء المعلومات التي في حوزتهم أو بحوزة مَن كان يعمل تحت إمرتهم عن أماكن وجود المقابر الجماعية، إذا كانوا فعلاً يريدون حلاً نهائياً لقضية المفقودين.
بالطبع، ليس واضحاً ما إذا كانت الهيئة ستجد سبيلاً مستقلاً للتعامل مع ملف المعتقلين في السجون السورية لأنه سيبقى عنواناً مطروحاً على الدوام، في ظل حال عدم الثقة الموجودة تجاه النظام السوري، على أقله من القوى السياسية المناهضة له، ومن المنظمات والجمعيات العاملة في هذا الملف.
النظام والإنكار المستمر
فبالنسبة إلى رئيس جمعية المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية علي أبو دهن، الذي أمضى 13 سنة في ضيافة سجن “تدمر” وإخوانه، فإنه لا يمكن الركون إلى ما يقوله النظام السوري. لقد أُطلق سراحه من ضمن مجموعة الـ54 معتقلاً لبنانياً في العام 2000 بعفو خاص من بشار الأسد شمل “سجناء صيدنايا” بعد توليه السلطة. لكنه يروي أنه عام 1998 عندما أصدر حافظ الأسد عفواً، وخرج 121 لبنانياً، كنا نسمع عبر الراديو بأنه لم يعد هناك معتقلون لبنانيون في السجون السورية. “تصوّري أنني كنت أسمع بنفسي أنني أصبحت نكرة. أنا اعتقلت في الـ87 وفي الـ1998 أنكر حافظ الأسد وجودي ووجود غيري من اللبنانيين لنخرج بعد سنتين، ولتعاود السلطات السورية من جديد الإعلان أنه لم يعد لديها معتقلون لبنانيون”.
يقول أبو دهن إنه أعلن، يوم إطلاق سراحه، أنه لا يزال هناك معتقلون لبنانيون في سجون أخرى لأن العفو شمل سجن صيدنايا فقط الذي كان محطته الأخيرة. وهو مقتنع بأنه مع كل إنكار من السلطات السورية، يعود ويظهر معتقلون جدد، ودليله على ذلك “خروج أحد المعتقلين عام 2011 وهو جورج شمعون، الذي اعتقل أيضاً أثناء الحرب اللبنانية وبعدما أفرج عنه رفض الكلام أو إعطاء أي معلومات أو الحديث عن فترة سجنه، نتيجة الضغوط التي مورست عليه، قبل أن يهاجر من لبنان نهائياً إلى السويد”. كما اعتبر أن “إعلان النظام في نيسان/ابريل 2018 عن وفاة المعتقل السوري من أم لبنانية حسن حديفة، وتسليم جثته لعائلته، بعدما أمضى أكثر من ثلاثين عاماً خلف قضبان السجون السورية، يؤكد وجود معتقلين سياسيين وبينهم طبعاً لبنانيون في هذه السجون، رغم نفي النظام للأمر”.
حين تبدأ الروايات عن المعتقلين في السجون السورية، تغيب أي قدرة على التأكيد والتمحيص بالوقائع. تسأل أبي عقل: “الأنباء كانت تقول إن سجن تدمر قد أُخلي من السجناء، إذا كان هناك لبنانيون موجودين فيه… فأين هم؟”. تساؤل يقابله محفوض بروايات تصله من أشخاص خرجوا من السجون السورية عن رؤيتهم لهذا المعتقل أو ذاك، فيما يؤكد أبو دهن أن معلومة سُرّبت إليه عن وجود سجين في سجن اللاذقية، وحين اتصل بأهله أكدوا له ذلك، وأنهم يزورونه، لكنهم رفضوا إثارة الموضوع كي لا يؤثر على ابنهم وعلى تواصلهم معه.
هذه النماذج لا تدلّ سوى على الحاجة إلى تبديد الغموض الذي أصبح سيّد الموقف في هذه القضية، وإلى إزالة الهواجس في قضية حسّاسة مفتوحة على الاستثمار السياسي الداخلي، وعلى بازار علاقة النظام السوري مع لبنان ومع القوى السياسية فيه، وهو الضليع في أوراق المساومة. لكن التحدي الذي يطرح نفسه يتعلق بما إذا كان الحكم الراهن في لبنان يعتبر أن هناك فعلاً قضية اسمها: “المعتقلون في السجون السورية”… أم أنه أقفل الباب عليها منذ زمن؟